إِرنست (ماكس -)
(1891-1976)
سيرة الذاتية
أتاحت لماكس صداقته الحميمة للفنان أوغست ماكه August Macke الإِسهام في معارض الفنانين التعبيريين بمنطقة الراين, وتعرف هناك روبير دولوني R.Delaunay وغيوم أبولينير G.Apollinaire. لذا كانت لوحاته الزيتية والمائية متأثرة في البداية بأعمال ماكه, إِلا أن صلته بروبير دولوني, وزيارته لمعارض الحركة المستقبلية في صالة فلدمان في كولونية, ضاعفتا من قوة ألوانه وإِيقاع تكويناته.
وفي المدة التي اجتذبته فيها الدادية استخدم ماكس إِرنست طريقة الملصقة collage, وهي الطريقة التي يستخدم فيها الفنان رسوم المجلات القديمة فيجمع بين ما يقصه منها بعناية فائقة, ويؤلف منها, على اختلاف موضوعاتها, أشكالاً عجيبة تجمع بين الطير والإِنسان والحيوان والأصداف ونحوها, فيخلق بذلك عالماً أشبه بعالم الأساطير. كما استخدم طريقة الحك frottage, إِذ كان يعمد إِلى ملء أشكاله الغريبة, التي لا يرسم سوى خطوطها الخارجية, بوضع الورقة على سطح خشن من الخشب أو الحجر أو أوراق الشجر, ثم الحك داخل الأشكال بقلم الرصاص أو الفحم أو الباستيل, فينشأ عن ذلك صور تثير الخيال, بفضل التقاء هذه المادة الطبيعية, المتمثلة في تجاويف الخشب أو الحجر وفي أوراق الشجر, مع الشكل المرسوم أصلاً في صورة واحدة.
ويروي ماكس إِرنست في مذكراته أنه لم يعمد إِلى ابتكار هذين الأسلوبين وغيرهما من الأساليب الكثيرة التي ابتدعها لمجرد الرغبة في التفنن والابتكار, وإِنما جاء الأمر كله ثمرة رؤى ظلت تراوده سنوات, وهو في حالة إِغفاء, قبيل النوم أو قبيل اليقظة. أما التغريب dépaysement الذي ظهر لديه فهو اتجاه من خصائص السريالية surréalisme, استخدمه كذلك المصور السريالي الإِسباني سلفادور دالي Salvador Dali. ويعني هذا التغريب نقل الكائنات من وسطها المألوف إِلى وسط غريب عنها, وذلك ليتسنى للعين والنفس أن ترياها رؤية جديدة, على غير تلك الصورة المعهودة التي فقدت قدرتها على الإِيحاء والإِلهام.
وتنقسم الأعمال السريالية عند ماكس إِرنست من حيث طريقة الأداء قسمين: يعتمد القسم الأول على التجسيم الواقعي, وفيه يلجأ إِلى ما يشبه التصوير الضوئي (الفوتوغرافي) في إِبراز المرئيات, سواء أكانت حقيقية مقتبسة من الطبيعة, أم خيالية مستوحاة من عالم الأساطير والأحلام. أما القسم الثاني فينحو منحى تجريدياً, يتجلى فيه إِطلاق عنان الفكر, بلا ضابط من قواعد المنطق والحساب؛ فتنطلق يد الفنان لتسجل مباشرة خلجات النفس و ومضات الخيال, غير مبالية بالصورة التي تنتهي إِليها بقيمها الفنية والجمالية.
وبهذا الصدد أعطى ماكس إِرنست تفسيراً لأعماله على النحو التالي: «في تلك الأيام, لم أكن أقصد إِثارة إِعجاب المشاهدين بأعمالي, بل أردت حملهم على الصراخ والعويل لما سببته الحروب من أضرار للبشرية».
كان تاريخ تحول إِرنست إِلى السريالية عام 1921, عندما لبى دعوة صديقه أندره بروتون A.Breton إِلى باريس, وعرض مجموعة من أعمال الملصقات, في معرض أطلق عليه عنوان «ما وراء التصوير». وغدا هذا العنوان فيما بعد مفهوماً عاماً ترك أثراً بالغاً في أفكار ماكس الفنية.
وفي عام 1921 قام الشاعر الفرنسي بول إِلوار paul Éluard, بزيارة إِرنست في كولونية, ونشأ عن تلك الزيارة صداقة حميمة بينهما أدت إِلى نشر ديوان شعر مصور عنوانه «الهذيان», وآخر بإِحدى وعشرين لوحة لصْق عنوانه «مآسي الخالدين».
وقد أسهم إِرنست بدور مهم عام 1930 في الفلم السريالي «العصر الذهبي», وأوحت له الكواليس باستخدام لوحات مهملة من الخشب ملطخة بالجص لخلق مجموعة من لوحات اللصق, وفي هذه الحقبة أصدر أول رواية له بالطريقة ذاتها سماها «المرأة ذات الرؤوس المئة».
وفي عام 1941 تمكن من الهرب إِلى الولايات المتحدة الأمريكية, بعد أن لاحقه الغستابو الألماني وسجنه (1939-1941).
وهناك أصدر في نيويورك, مع الكاتب الفرنسي أندره بروتون والمصور الفرنسي مارسيل دوشان Marcel Duchamp مجلة «777» التي تُعد انطلاقة السريالية في أمريكة. وبقي يعمل حتى عودته إِلى باريس عام 1949 ليستقر فيها.
تميزت أعمال ماكس إِرنست منذ عام 1945 باستخدام عناصر هندسية وإِشعاعات كروية وسطوح صغيرة مصقولة كما في لوحة «إِقليدس». وقد أضاف طريقة جديدة إِلى عمله هي طريقة «الكشط» grattage, وتتم بتمرير مشط على كتلة من الألوان غير الجافة, يؤدي إِلى نشوء ملمس متنوع للسطوح. ومن أعماله في هذا المجال: «عرائس الهواء» و«زهرة الصدف» و«نصب تذكاري للطيور». أما استعماله للطيور في الكثير من لوحاته فمبعثه أنها ترمز إِلى الحب والموت.
وفي عام 1954 منح ماكس إِرنست جائزة التصوير الكبرى في المعرض «الثنائي السنين» Biennal السابع والعشرين الذي أقيم في البندقية, وانفصل نهائياً عن الحركة السريالية. وفي عام 1958 حصل على الجنسية الفرنسية.
أما أعمال إِرنست في النحت فتعود إِلى ما بين عامي 1916-1919, ومنها منحوتة بعنوان «ثمرة تجربة طويلة», نفذها بتجميع عناصر خشبية وحديدية مطلية بالألوان.
كان لأعماله التي عرضها في معرض الدادية في كولونية عام 1920 وقع المفاجأة والغرابة. ويتألف أحد هذه الأعمال, وهو من دون عنوان, من قطعة خشب منحوتة عليها عدد من الأجراس وفأس صغيرة. وعلى هذا النحو كانت منحوتاته تجمع مواد متنافرة, مثل الجص والفلين والخشب والقماش, وغالباً ما تكون ملونة.
إِن هذا الأسلوب الدادي في النحت لازم إِرنست حتى بعد انضمامه إِلى الحركة السريالية, وفي ظلها تميزت أعماله بحجومها الكبيرة وجودة صقلها واستدارتها, مما جعلها مستقلة تماماً عن أعماله في التصوير. وقد استفاد إِرنست من علاقته بالنحات السويسري ألبرتو جياكوميتي[ر] A.Giacometti, وقضى عنده صيف عام 1934 بكامله, وقام بنحت بعض الأعمال من الغرانيت, وقد مثلت منحوتاته مخلوقات خرافية أبدعها خياله الخصب, منها حيوانات وأقنعة, وذلك إِضافة إِلى أعمال ضخمة كمنحوتة «الملك يداعب الملكة» (1944).
لقد انطلق ماكس إِرنست من المواد المبتذلة أو البسيطة ليحقق في النهاية عالمه الأسطوري الخاص, وفنه الذي أوصله إِلى القمة في تاريخ الفن المعاصر.
مقالات نشرت عن ماكس ارنست
ماكس ارنست يروي أيام الأسبوع بالملصقات
حقّق الفنان السرّيالي الكبير ماكس أرنست (1891-1976) عام 1933، خلال إقامته في مدينة فيغولينو الإيطالية لمدة ثلاثة أسابيع، مئة وأربعة وثمانين ملصقاً جمعها في شكل رواية مصوَّرة تحت عنوان «أسبوع من الرأفة». ومنذ تلك الفترة، لم تُعرض هذه الأعمال إلّا مرّة واحدة، عام 1936، في المتحف الوطني للفن الحديث في مدريد، لتعود فتتوارى عن الأنظار وتتحوّل إلى أحد الأسرار الفنية الكبرى خلال القرن العشرين. ولعل هذا ما يمنح المعرض الخاص بها حالياً في متحف أورسيه (باريس) أهميته.
رواية «أسبوع من الرأفة» ليست العمل الوحيد الذي أنجزه أرنست بهذه الطريقة. فخلال عامَي 1929 و1930، حقق عملين مشابهين هما: «المرأة التي لا رأس لها» و«حلم فتاةٍ صغيرة أرادت دخول الرهبانية الكرملية». لكن الرواية المعروضة حالياً هي بلا شك الأهم على المستويين السرّيالي والفني في شكلٍ عام. فالملصقات التي يتشكّل منها هذا الكتاب استوحى أرنست مضمونها من الروايات الفرنسية الشعبية التي صدرت في نهاية القرن التاسع عشر، وشكّل القتل والغيرة معاً موضوعها الثابت. وتضمّنت هذه الروايات غالباً محفوراتٍ استخدمها أرنست كمادّة لملصقاته. أما عنوان هذا العمل المثير، «أسبوع من الرأفة»، فيستحضر في شكلٍ نقدي برنامج الجمعية الخيرية التي تأسست عام 1927 بالاسم ذاته ودعت الناس إلى أسبوعٍ من العمل الاجتماعي. وفعلاً، يستخدم الفنان الألماني الأصل هذا العنوان بطريقةٍ ساخرة للإشارة إلى ثقافة السلطة والعنف والموت السائدة. وفي ملصقاته، يُسلّط الضوء في شكلٍ فريد على الأنظمة الدكتاتورية الأوروبية ومسألة بلوغ الحزب «القومي الاجتماعي» إلى السلطة في ألمانيا، إضافة إلى استكشافه موضوعات أخرى، كعوالم الحكايات والأساطير والأحلام والشعر الممكنة.
يجذبنا داخل كل واحد من هذه الملصقات تشابكٌ فريد ودقيق بين عناصره المكوِّنة يعكس بلوغ أرنست في تقنية الملصق درجةً لا تقارن من الكمال. فالعوالم الرؤيوية الناتجة عن هذه «التركيبات» تتميّز بقدرةٍ مذهلة على الإقناع على رغم تحدّيها المنطق وحسّ الواقع. وتتوزع الملصقات داخل المعرض على خمس صالاتٍ، وفقاً للترتيب الذي تظهر فيه داخل الرواية التي تتألف من خمسة أجزاء أو دفاتر منفصلة يحمل كل واحد لوناً خاصاً: بنفسجياً، أخضر، أحمر، أزرق أو أصفر. ولكنّ ثمة تقسيماً آخر للملصقات وفقاً لأيام الأسبوع السبعة أو للعناصر السبعة: الوحل، الماء، النار، الدم، السواد، الرؤية والمجهول. وتشكّل هذه التقسيمات في الواقع فن مسرَحة (dramaturgie) تستمد الملصقات وحدتها منه.
الدفتر الثاني مُخصَّص ليوم الاثنين ولعنصر «الماء»، ويبتعد الفنان فيه عن العنف البشري لمصلحة قوة الطبيعة. ونشاهد في ملصقات هذا الدفتر المياه وهي تدمّر الجسور وتكتسح شوارع باريس وتتغلغل داخل المنازل وغرف النوم جارفةً البشر. وتتربّع المرأة على هذه الأعمال كعنصرٍ طاغٍ.
■■■
ماكس إرنست... « يتوه الفنان حينما يجد نفسه »
إن المرتبة الرفيعة التي حققها ماكس إرنست في عالم الفن، وهذا الخلط الفريد بين اللهو والجد، لا يجاريه فيهما فنان آخر في زمنه. فقد تمكّن إرنست من تحقيق التناسق العفوي والهدوء المشهدي لدى كل من يشاهد أعماله، وهذا يرتبط بشكل مباشر مع الرؤية الشخصية للأعمال الفنية والغرافيكية. يحرّك إرنست أعماق المشاهد ويجعله يواجه عتبة حيرته، وهو يهدف دائماً إلى تحقيق هذا التأثير المزدوج والذي هو انعكاس لتكوينه الشخصي، فأعمال التصوير التي أبدعها ماكس إرنست، بحسب أحد النقّاد، تحدث على صعيدين مختلفين. فهي تعطي الإحساس بالعدوانية... والتمرّد.
لقد استطاع إرنست أن يحقق رؤية غوته عن الفن: «إن الفن الرديء هو الفن الذي تفهمه من أول وهلة... والذي تدرك مدلوله مباشرة». اشتغل إرنست بفن اللثوغراف، فقد كان يسعى من خلال هذه التقنية إلى التمكّن من الاشتغال على أشكال مطبوعة مسبقاً والاستفادة منها عن طريق إلغاء بعض الأجزاء وإعادة ترتيب علاقاتها لونياً.
في الثلاثينيات قام إرنست بممارسة تكنيك الفوتوغرام، وذلك بوضع أعمال الكولاج أو الفروتاج التي سبق تحضيرها على خامات التصوير الحسّاس، وذلك بتركيز الضوء كخلفية الصورة السلبية، وبالتالي يحصل على المساحات المرسومة بالأسود باللون الأبيض وغير المرسومة سوف تظهر سوداء.
الفروتاج يمكن تخيّله كصورة بالأشعة السينية التي تظهر بوضوح الأسطح البارزة - من طريق هذا التكنيك تختفي المعاني الواقعية للأشياء وتظهر داخل تنظيم بصري سوريالي. ومن أشهر هذه الأعمال «التاريخ الطبيعي».
في أعمال الكولاج أفصح إرنست عن دلالات واضحة من خلال الاهتمام بعناوين الأعمال والأشكال التي تكرّر ظهورها. وقد يظنّ الرائي أنه يسهل عليه التعرّف إلى مغزى تسلسل سوريالي للأحداث، لكن الرائي الذي يحاول فهم السبب الظاهري تفصيلياً، فإن هذه الأعمال تستحيل إلى ألغاز لا يمكن حلّها، ومن الأفضل رؤيتها بمعزل عن بعضها البعض أو كأعمال منفصلة. وإرنست نفسه يعتبر أعماله في التصوير ليست بتلك الأهمية، في الوقت الذي تُعتبر أعماله الجرافيكية من أهمّ ما أنتج. بعد عام 1919 انشغل إرنست بأعمال «الكولاج»، وفي بداية 1930 ظهرت أول أعمال الكولاج مثل «المرأة بمئة رأس» (1929) و «حلم فتاة صغيرة» (1930) و «أسبوع في بونت» (1934) التي حققت شهرة كبيرة.
■■■
ماكس إرنست: ” الحلم والثورة “
أكثر من مئتين عمل فني توزعت بين الرسم والنحت، مثلت خلاصة أعمال هذا الفنان الشاعر، احتضنتها القاعات الأربع الرئيسة من المتحف…
يعد ماكس إرنست، أحد أهم فنانين القرن العشرين المؤثرين. فنان محدّث مفرط، متكيّف مع إنسانيته. حياته الفنية يميزها كماً هائلاً من التجارب والأبحاث، هو الذي دَرَسَ علم النفس والفلسفة في جامعة بون 1909-1914 وكان مسحوراً في الوقت نفسه بعوالم الفن التشكيلي الذي دَرَسَ أصوله بشكل شخصي متخذاً من الفنان الهولندي فان غوغ ملهماً وأستاذاً له… لقّبه النقاد بالفنان الفيلسوف المتشرد، فحياته كانت عبارة عن رحلات فنية طويلة. وكان على الدوام خارجاً من أو داخلاً في تجربة جديدة باحثاً عن التغيير والتعبير بشكل أكثر تطوراً. لم يقف صامتاً على الإطلاق أمام أي إشارة، ولم يتوقف عن سعيه في الاكتشاف، بل كان مستمراً بالتحدي ساعياً إلى اكتشاف تجارب فنية أعمق: “ليس المهم أن أحقق ما أريد، المهم أن أستمر في التجربة والتحدي علّني أكتشف تحولات مفاهيمية أو أجد وسائل تعبيرية جديدة.” وتحت تأثير هذا الإصرار جاءت انعكاسات تجاربه المتواصلة على نتاجاته الفنية متميزة بالريادة والابتكار.
لا بد لزائر المعرض أن يبدأ مع القاعة الأولى التي خصصت للبدايات وصولاً إلى المرحلة الدادائية. تلك الفترة التي تلمست فيها تجربة الفنية مرارة الحرب العالمية الأولى التي سرقت من حياته أربع سنوات قال عنها: “مات إرنست في الأول من آب 1914 وعاش في أيلول 1918″ حيث خرج من هذه التجربة متمرداً على الواقع وقيمه وقوانينه كونها الممهد الأساس لإشعال فتيل الحروب… تميزت الأعمال المعروضة والخاصة بهذه الفترة بتنوع طرق التنفيذ التي لا ينقصها الابتكار. التنفيذ بطريقة الحك والكولاج، سمة الأعمال المعروضة وسر الدهشة الممنوحة. قصاصات ورقية من مجلات وصحف يشكلها الفنان لتأخذ أشكالاً ساحرة تكتنز رمزية عالية تتجه في الغالب نحو الأسطورة لتكوّن ردود فعل صاخبة على ما يطرحه الواقع… طيور ونباتات وحيوانات وتكوينات بشرية تستفز الكثير من الأسئلة في ذهن المشاهد. وعن هذه الفترة يقول زميله النحّات والشاعر هانز آرب ( Hans Arp 1887 – 1966 ) الذي اشترك عام 1916 في إصدار “البيان الدادائي” في زيورخ والذي شارك أيضاً ماكس إرنست في تأسيس حركة كولن الدادائية والتي سميت بـ “Central W3″: “إن تلك الثمار المنتقاة من شجرة الدادائية، المزهرة من الأعلى إلى القدم، هي التي أنبتناها أنا وصديقي ماكس إرنست ونحن في كولن… إن الشيء المهم في الدادائية هو أن الدادائيين يزدرون ما يحسب فناً على المستوى المألوف، لقد أعلنا بأن كل شيء جاء للوجود، أو كان من صنع البشر، فن. قد يكون الفن شراً، مملاً، قاسياًً، حلواً، خطراً، عذباً، بشعاً، أوقد يكون بهجة للناظرين.”
ترك ماكس إرنست مدينة كولن الألمانية عام 1922 متوجهاً إلى باريس، ليدخل عالم الفن بصفته أحد المؤسسين الأوائل للحركة السريالية بالاشتراك مع بول إيلوار والشاعر أندريه بروتون، وليؤسس لتاريخه الشخصي مرحلة فنية وأدبية جديدة امتدت حتى العام 1941، وعن هذه الفترة تحدثنا القاعة الثانية من المعرض تحت عنوان “بدايات المرحلة السريالية وحياة الفنان في فرنسا” احتوت القاعة على أكثر من ثلاثين لوحة تمثل خلاصة المرحلة السريالية الباريسية لماكس إرنست. يقف على رأسها ثلاث لوحات تعد الأكثر شهرة، وهي: “البيانو الخفي” و “معايشة الحب أو السحر” واللوحتان رسمتا عام 1923، أما العمل الثالث “العذراء تعاقب الطفل المسيح أما أنظار ثلاثة شهود هم، أندريه بروتون وبول إيلوار والرسام” فيعد أحد أهم الدلالات الفنية التي تشير إلى تمرد هذا الفنان على الكثير من قيم وقوانين الواقع المعاش، فهذا العمل الذي نفذه وعرضه ضمن معرضه الشخصي عام 1926، تسبب بإغلاق المعرض منذ يومه الأول، والسبب وراء ذلك يعود إلى “وقاحة” موضوع اللوحة، هذه الوقاحة التي تسببت أيضاً بإصدار قرار من الكنيسة يفضي إلى طرد ماكس إرنست منها. الناظر لهذا العمل يمكنه تلمس الـ “الوقاحة” التي استفزت الكنيسة بدءاً من الثوب الأحمر الذي ترتديه العذراء والتي تظهر فيه ضخمة البنية، قاسية متسلطة، ووصولاً إلى الهالة الساقطة من رأس المسيح على الأرض وكأنها قبعة أو شيء مادي فاقد القدسية.
بعد ملاحقة الشرطة السرية الألمانية لماكس إرنست وسجنه لبضعة شهور، استطاع الهرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1941 ليؤسس هناك مع أندريه بروتون ومارسيل دوشامب قاعدة للحركة السريالية حيث أصدرت المجموعة مجلة تهتم بنشر أسس ونظريات الحركة، وبهذا يكون مركز ثقل النشاط السريالي قد انتقل من باريس إلى نيويورك، ورغم الصعوبات التي واجهها الوافدون الباريسيون بسبب “غرابة” أسلوب أعمالهم، وقلة الكتابات والنشرات المختصة بالحركة السريالية ومفاهيمها التي سبقتهم إلى نيويورك، إلا أنهم تمكنوا من تحقيق تقدماً ملحوظاً من خلال “المعرض الدولي للسريالية” الذي نُظّم بأشراف أندريه بريتون ومارسيل دوشامب عام 1948 في نيويورك، حيث تكونت لهم بعدها مجاميع من الفنانين المتأثرين بحركتهم الجديدة… وهناك واصل إرنست تجاربه في إيجاد طرق تنفيذ جديدة في الرسم، وهذا ما تحدثنا عنه اللوحات المعروضة في القاعة الثالثة المخصصة لتلك المرحلة التي منحها نقاد المتحف اسم “زمن المنفى في أمريكا” حيث حددت الأعمال بالفترة المحصورة بين الأعوام 1941-1953 والتي تميزت بتقنية التنفيذ التي ابتعد فيها الفنان عن الفرشاة ليستخدم أدوات بيتية مثل الأمشاط والسكاكين والشِّوَك، بالإضافة إلى ظهور الأشكال الهندسية في لوحاته وعلى وجه الخصوص السطوح الدائرية الخشنة والهالات اللونية المشعة، وهذه الأعمال منحت هذا الفنان صفة “الفنان الأكثر نشاطاً” بين الفنانين السرياليين بسبب جهوده المبذولة في البحث والتجريب وتعدد أساليبه التنفيذية لأعمال عديدة لا تتقصها الحداثة.
أما المرحلة الأخيرة من حياة هذا الفنان فقد اختصت بها القاعة الرابعة من المتحف والتي تبدأ بزمنها من العام 1953 حيث عودته إلى باريس ثم حصوله عام 1954 على الجائزة الكبرى لمعرض بينالي البندقية حتى وفاته عام 1976، وقد عرفت هذه الحقبة الزمنية العديد من الأعمال النحتية التي غلب عليها دلالات شعرية وفلسفية بأشكال الحيوانات مثل العمل البرونزي “رأس طائر وقمر” المنفَّذ عام 1934 وغيرها من الأعمال الشهيرة مثل “الضفدع الكبير” و “السلحفاة الكبيرة” وهي من سلسلة أعمال نفذها عام 1967 تحت عنوان “المساعدة الكبرى” وكان قد نفذ قبل ذلك بسبع سنوات تمثاله الشهير “في شوارع أثينا”
” الحلم والثورة” إذاً، عنوان ليس له أية دلالة سياسية، كما أنه لا يشير إلى اللوحة الزيتية التي رسمها ماكس إرنست في أمريكا عام 1946 والتي تحمل العنوان نفسه، بل هو سيرة حياة فنان وشاعر وفيلسوف تزامن فيها الحلم والابتكار والاكتشاف، مع الثورة على الأشكال والأساليب الكلاسيكية وتحطيم كل ما هو تقليدي.
■■■
إن أردنا الاقتناع بأن السريالية لم تكن لحظة ثانوية في تاريخ الفن في القرن العشرين يكفينا أن نتأمل في أعمال ماكس ايرنست. عبّر هذا الرسام السريالي عن العصر كله دون أن يضطر لأن ينكر نفسه،فتمتع بعمر طويل من الإبداع وجاء حدسه الفني مبكرا وصداقاته مثمرة وحبه حاسما. وهكذا كان في حياة هذا الرسام كل المكونات التي تصنع قدرا استثنائيا. حتى التاريخ نفسه كان حاضرا في صنع هذا القدر؛ ذلك التاريخ الذي يحدد النزاعات والمنفى. ولد ماكس ايرنست في ألمانيا ثم اختار فرنسا وعاش فيها منذ العشرينات ليلتحق ببول ايلوار وأندريه بروتون
كان خيارا المنفى سعيدا فقد منحته أمريكا فرصة اكتشاف ولاية أريزونا وتعرف فيها على فن الهنود من قبائل الهوبي،كما إنها منحته قصة حبه مع دوروثيا تاننغ والتي أصبحت زوجته ورفيقة رحلته منذ عام 1943 وعادت معه إلى أوربا في 1953 وشاركته سنين السلام والابداع في فرنسا.
خصصت مدينة بروهل متحفا لأعماله وعهدت بالافتتاح للمؤرخ الفني فارنير سبي وهو أحد المتخصصين بأعمال ايرنست وكان ذلك تتويجا للاعتراف بالرسام وبقيمته الفنية.
مارس ماكس ايرنست الرسم والنحت وتقنيات الفرك والصقل واللصق حيث وضع كل الوسائل الفنية المتاحة لخدمة رؤية قادرة على كشف أعماق الهاوية أو قمة السمو التي يمكن أن تواجه البشر. وتعتبر لوحاته المروعة التي رسمها خلال سنوات الحرب بل وحتى لوحات الخرائب المنذرة بقدوم الشر قبل اندلاع النزاع، ترجمة شاملة للخيالات المعتمة التي تسكن في كل واحد منا. وتذكرنا بعض لوحاته مثل “عين الصمت” (1943) و “غواية القديس أنطوان” (1945) بجيروم بوش بسبب عتمة مناظرها.
إلا إن ايرنست كأصدقائه من الشعراء وضع أيضا المرأة وتحولاتها في مركز اهتماماته فهي الوسيطة للأحلام.
لوحته “المرأة والشيخ والزهرة” والتي نرى فيها الأفق يعبر خيال أمرأة ما هي من نفس مجموعة لوحته “البستانية الجميلة” التي ضاعت خلال الحرب ولوحة “عودة البستانية الجميلة” (1967) التي تمثل ازدواجا رائعا للذاكرة.
عندما تنظر جانبيا لعين ماكس ايرنست الزرقاء فكأنك تنظر لعين طائر؛ فنظراته نصف شفافة وثاقبة وتعكس لك ما هو أبعد مما تعكسه المرآة.هذه النظرات تمثل عكس ما تمثله نظرات المصور مان ريه الكئيب والمنكمش على ذاته فإن رأيته يحدق في موضوعه التصويري فيبدو لك إنك ترى قزحية عينه ومنها ترى دماغه كجهاز يعمل.
يعتبر ماكس ايرنست رساما أديبا فهو يعلق على لوحاته ويعنونها بالفرنسية وتكون جمله في الغالب غامضة بقدر ما هي ساخرة. أين يمكن تصنيفه بين الرسامين؟ لوحاته تتطلب انتباه أكثر من لوحات بيكاسو إلا إنها أقل حسية منها. وهو أكثر خيالا من ميرو واقل انفتاحا خارج الذات من دالي كما إنه أفضل كرسام من ماغريت أو شيريكو. إضافة إلى ذلك فهو متمكن جدا في تقنية الكولاج (اللصق) حيث يستخدمها في سرد القصص كما هو الحال في لوحته “المراة ذات المائة رأس” والتي استخدم فيها 147 لوحة. وهو نفسه الذي وقع اللوحة المشهورة لمجموعة السرياليين والمسماة ب“موعد الأصدقاء” (1922).
ومع ذلك فإن لوحاته تبقى عصيه على الفهم أكثر من غيرها وكثيرة الغموض ولا تبعث أبدا على الاطمئنان. فهي تبقى كالوجه الآخر الخفي من القمر، ذلك الكوكب الذي يضيء المشاهد الليلية حيث يسيطر على لوحات ماكس ايرنست الهاجس الكئيب لإنسان لديه تساؤلات عديدة إلا إنه لا يدعي معرفة الأجوبة على تلك الألغاز الرمزية
■■■
أعمال ماكس ارنست
![]() | Oedipus Rex. 1922. Oil on canvas. 93 x 102 cm. Private collection. |
![]() | A Friends' Reunion/Au Rendez-vous des amis. 1922. Oil on canvas. 130 x 95. Museum Ludwig, Cologne, Germany. More. |
![]() | Of This Men Shall Know Nothing. Oil on canvas. 81 x 64 cm. 1923. Tate Gallery, London, UK. |
![]() | Ubu Imperator. 1923. Oil on canvas. 100 x 81 cm. Private collection. |
![]() | Castor and Pollution. 1923. Oil on canvas. 73 x 100 cm. Private collection. |
![]() | Woman, Old Man and Flower/Femme, viellard et fleur. 1923-24. Oil on canvas. 96.5 x 130.2 cm. The Museum of Modern Arts, New York, NY, USA. |
![]() | The Equivocal Woman (also known as The Teetering Woman). 1923. Oil on canvas. 1923. 130.5 x 97. 5 cm. Kunstsammlung Nordrhein-Westfalen, Düsseldorf, Germany. |
![]() | Two Children are Threatened by a Nightingale. 1924. Oil on wood with wooden elements. 69.8 x 57.1 x 11.4 cm. The Museum of Modern Arts, New York, NY, USA. |
![]() | The Couple or The Couple in Lace. 1925. Oil on canvas. 101.5 x 142 cm. Museum Boymans-van Beuningen, Rotterdam, Netherlands. |
![]() | Eve, the Only One Left to Us. 1925. Oil on plaster on cardboard. 50 x 35 cm. Private collection. |
![]() | Fishbone Forest. 1927. Oil on canvas. 54 x 65 cm. Private collection. |
![]() | Vision Induced by the Nocturnal Aspect of the Porte St. Denis. 1927. Oil on canvas. 66 x 82 cm. Private collection. |
![]() | After Us Motherhood. 1927. Oil on canvas. 146.5 x 114.5 cm. Kunstsammlung Nordrhein-Westfalen, Düsseldorf, Germany. |
![]() | A Night of Love / Une nuit d'amour. 1927. Oil on canvas. 162 x 130 cm. Private collection. |
![]() | Cage, Forest and Black Sun / Cage, forêt et soleil noir. 1927. Oil on canvas. 114 x 146 cm. Private collection. |
■■■
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق